أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(والسماء ذات البروج، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء شهيد).
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء اللذين فتنوا في ديِنهم..
هؤلاء اللذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم. وما نقموا منهم إلا أن يأمنوا بالله العزيز الحميد. وكان نكالاً دنيوياً بالغَ القسوة. وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهارِ إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار هم ونسائهم وأطفالهم ليلقوا فيها لا لشيء إلا لأنهم أمنوا بالله جل وعلا. حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها تكعكعت، لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل. فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيدا مثبتاً مصبرا: يا أمه اصبري فأنك على الحق. فتتقحم المرأةُ الضعيفةُ والطفل الرضيع تتحقحمان هذه النار. إنه مشهدُ مريعُ وجريمةُ عظيمةٌ يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها فإذا هي قصةُ مليئةُ بالدروسُ مشحونة بالعبر فهل من مدكر؟ ولكنا نطوي عبرَها كلها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، آية عظمى تومض من خلال هذا العرض للقصة، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ وذكرت تلك النهايةُ المروعةُ الأليمة لتلك الفئةُ المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفرُ التي أضرمت فيها النار. بينما لم يرد خبرُ في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين اللذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: لم تذكرُ الآياتُ عقوبةُ دنيوية حلت بهم. لم تذكر أن الأرض خسفت بهم. ولا أن قارعة من السماءِ نزلتَ عليهم. انتهاء عرضُ القصةِ بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود. والإعراض عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تُذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلما أغفل مصيرُ الظالمينَ ؟ أهكذا ينتهي الأمر، أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود؟ بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهبُ ناجية؟ هنا تبرزٌ الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ الكتاب وأعادت، وكررت وأكدت وهي: أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه. ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية: ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض). فهذا الذي جرى كلِه جرى في ملكِه ليس بعيدا عن سطوتِه، وليسَ بعيدا عن قدرتِه إنما في ملكه: (والله على كلِ شيء شهيد). فهذا الذي جرى لم يجري في غفلةٍ من الله ولا في سهو من الله. كلا… ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيدُ على ذلك مطلعُ عليه. إذا فأين جزاء هؤلاء الظالمين ؟ كيف يقترفون ما قارفوا، ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟ يأتي الجوابُ، كلا لم يفلتوا. إن مجال الجزاء ليس الأرضَ وحدَها. وليسَ الحياةَ الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقيُ لم يجئ بعد. وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة. أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقةُ والجزاء الحقيقي فهناك: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق). هولا الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون ولكن أين؟ أين ؟ في جهنم. في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة. وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق! أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق، من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق ؟ أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات، من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله ؟ أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله، من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله ؟ هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة. أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربةَ ماء. إن الدنيا هينةُ على الله جل وعلا: مر النبيُ (صلى الله عليه وسلم) وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم، تلقى عليها النفايات، الفضلات، الجيف. فإذا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) ينفردُ عن أصحابه ويتجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوهِ الخلقةِ قد مات، مشوه الخلقة، صغير الأذن قد انكمشت أذنه. فأمسك النبيُ (صلى الله عليه وسلم) بهذا التيس الميتَ فرفعه. ثم أقام مزاداً علنياً ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطبا أصحابه: آيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم ؟ من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟ وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر. ليس لها قيمة شرائية ولذا ألقيت مع الفضلات. قالوا يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حيا لما ساوى درها. لأنه مشوه. فكيف وهو ميت؟ لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم ؟ فألقاهُ النبي (صلى الله عليه وسلم) وهوت الجيفة على السباطة والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: لدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم. إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة. وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ جلا جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه. وأيضا لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه. كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين. أستمع إلى هذه الآيات: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين). أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين. كلا.. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه: (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين). ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة. هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع. ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلائهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله جل وعل متاع قليلا: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد). (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار). نعم قليلا، تمتع بكفرك قليلا، قد يكون هذا القليل ستون سنة. قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟ كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء. (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ،قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين). قالوا يوما..ثم تكاثروا اليوم فرجعوا أو بعض يوم فسأل العادين. (قال إن لبثتم إلا قليلا). كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يوما، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين. (قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنت تعلمون). هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي. ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاءُ الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك: (إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم). (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون). قد ترى شيئا من عقوبتهم وقد يتوفاك قبل ذلك. ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلفون على ربٍ كان شهيداً على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافيا على الله، كان مطلعاً عليه: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا، حتى يلاقوا يومَهم الذي يوعدون). حينها كيف سيكون حالهم؟ (يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون). وطالما نظرت أبصارهم بجرائه. وطالما اشمخرت أنوفهم بكبرياء. أما اليوم فأبصارهم خاشعة، وكبريائهم ذليلة، لماذا ؟ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون. لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ. وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه. وما أسرع ما شاهدوه. وما أسرع ما أحاطَ بهم أمره، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون. هنا أيها المؤمنون بلقاء الله جل وعلا تأثرُ هذه الحقيقةُ العظمى في نفسِ المؤمنِ ووجدانِه. فيعلم أن من اجترأ على الله وإن عاش كما يعيشُ الناس. بل ومات كما يموت الناس فإن الجزاء الحقيقيَ ينتظر هناك. إن الدنيا ليست دارُ جزاء ولكن دارُ عمل، وأما الآخرةُ فهي دارُ جزاء ولا عمل. نعم قد يعجلُ اللهُ العقوبة لبعضِ المتمردين لحكمةٍ يعلمها. فأهلك قومَ نوحٍ، وقوم هود وقوم صالح، أهلك أمما، وأهلك أفرادا. أهلك فرعون وقارون وهامان وأبا جهل وأبي ابن خلف. ولكن هذا تعجيل لبعض العقوبة، وقد يتخلف هذا التأجيل فتدخر العقوبةُ كلُها ليوافي المجرم يوم القيامة فإذا عقوبته كاملة لم يعجل له منها شيء. ولكن كل ما قارفَه في الدنيا، وإن عاش في الدنيا كما يعيش الناس، وتمتع في الدنيا كما يتمتع الناس، ثم مات ميتة طبيعية كما يموت الناس فإن كل ما فعله لم يكن يتم في غفلة من الله: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء). هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا. ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة. ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجترائَهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله،لم يجري في غفلةٍ من الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق